سورة المؤمنون - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} قال ابن عباس: هي كلمة بُعْد يقول: ما توعدون، واختلف القرّاء فيه، فقرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما، وقرأ نصر بن عاصم بالضم، وقرأ ابن حبوة الشامي بالضم والتنوين، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين، وكلّها لغات صحيحة، فمن نصب جعل مثل أين وكيف، وقيل: لأنهما أداتان فصارتا مثل خمسة عشر وبعلبك ونحوهما.
وقال الفرّاء: نصبهما كنصب قولهم ثمثّ وربّت، ومن رفعه جعله مثل منذ وقط وحيث، ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال الشاعر:
تذكرت أياما مضين من الصبا *** وهيهات هيهات إليك رجوعها
وقال آخر:
لقد باعدت أُم الحمارس دارها *** وهيهات من أُم الحمارس هيهاتا
واختلفوا في الوقف عليها، فكان الكسائي يقف عليها بالهاء، والفرّاء بالتاء، وإنّما أُدخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنها أداة غير مشتقّة من فعل فأدخلوا معها في الاسم اللام كما أدخلوها مع هلمّ لك.
{إِنْ هِيَ} يعنون الدنيا {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت الآباء ويحيى الأبناء {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ} يعنون الرسول {إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} عن قليل، وما صلة {لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} على كفرهم {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} يعني صيحة العذاب {بالحق فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} وهو ما يحمله السيل {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} والقرن أهل العصر، سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ومن صلة.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} مترادفين يتبع بعضهم بعضاً، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو تترى بالتنوين على توهّم أنَّ الياء أصليّة، كما قيل: معزي بالياء ومعزىً وبهمي وبهما فأُجريت أحياناً وترك اجراؤها أحياناً، فمَن نوَّن وقف عليها بالألف، ومن لم ينوّن وقف عليها بالياء، ويقال: إنها ليست بياء ولكن ألف ممالة، وقرأه العامّة بغير تنوين مثل غضبى وسكرى، وهو اسم جمع مثل شتّى، وأصله: وترى من المواترة والتواتر، فجعلت الواو تاء مثل التقوى والتكلان ونحوهما.
{كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} بالهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي مثلا يتحدّث بهم الناس، وهي جمع أُحدوثة، ويجوز أن يكون جمع حديث، قال الأخفش: إنّما يقال هذا في الشّر، فأمّا في الخير فلايقال: جعلتهم أحاديث وأُحدوثة وإنما يقال: صار فلان حديثاً.
{فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} نظيرها {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]؟.


{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)}
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا} تعظّموا عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} متكّبرين، قاهرين غيرهم بالظلم، نظيرها {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4].
{فقالوا} يعني فرعون وقومه {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} فنتّبعهما {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون متذللّون، والعرب تسمّي كلّ من دان لملك عابداً له، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة: العباد لأنّهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم.
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرق {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكي يهتدي بها قومه فيعملوا بما فيها {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} دلالة على قدرتنا، وكان حقّه أن يقول آيتين كما قال الله سبحانه {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] واختلف النحاة في وجهها، فقال بعضهم: معناه: وجعلنا كل واحد منهما آية كما قال سبحانه {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] أي آتت كلّ واحدة أُكلها وقال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} [المائدة: 90] ولم يقل أرجاس، وقال بعضهم: معناه: جعلنا شأنهما واحداً لأنّ عيسى ولد من غير أب، وأُمّه ولدت من غير مسيس ذكر. {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.
أخبرنا أبو صالح منصور بن أحمد المشطي قال: أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن عبد الله الرازي قال: أخبرنا سلمان بن علي قال: أخبرنا هشام بن عمار قال: حدّثنا عبد المجيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام في قول الله سبحانه {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، قتادة وكعب: بيت المقدس، قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. ابن زيد: مصر، الضحّاك: غوطة دمشق، أبو العالية: إيليا وهي الأرض المقدسة، ويعني بالقرار الأرض المستوية والساحة الواسعة، والمعين: الماء الظاهر لعين الناظر، وهو مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر ورآه، ويجوز أن يكون فعيلاً مَعَنَ يمعن فهو مَعين من الماعون.
{ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} يعني من الحلالات، يعني: وقلنا لعيسى: كلوا من الطيبات، وهذا كما يقال في الكلام للرجل الواحد: أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم، ونظائرها في القرآن كثيرة. قال عمرو بن شريل: كان يأكل من غزل أُمّه، وقال الحسن ومجاهد: المراد به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هذه} قرأه أهل الكوفة بكسر الألف على الابتداء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف وتخفيف النون جعل إنّ صلة مجازه: وهذه أُمتّكم، وقرأ الباقون بفتح الألف وتشديد النون على معنى هذه، ويجوز أن يكون نصباً بإضمار فعل، أي واعلموا أنّ هذه {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي ملّتكم ملّة واحدة وهي دين الإسلام.
{وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون * فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} قرأه العامة بضم الباء يعنى كتباً، جمع زبور بمعنى: دان كلّ فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: معناه فتفرقوا دينهم بينهم كتباً أحدثوها يحتجون فيها لمذاهبهم، قاله قتادة وابن زيد، وقرأ أهل الشام بفتح الباء أي قطعاً وفرقاً كقطع الحديد، قال الله سبحانه {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96].
{كُلُّ حِزْبٍ} جماعة {بِمَا لَدَيْهِمْ} عندهم من الدين {فَرِحُونَ} معجبون مسرورون {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} قال ابن عباس: كفرهم وضلالتهم، ابن زيد: عماهم، ربيع: غفلتهم {حتى حِينٍ} إلى وقت مجيء آجالهم.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} نعطيهم ونزيدهم {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} في الدنيا {نُسَارِعُ} نسابق {لَهُمْ فِي الخيرات} ومجاز الآية: أيحسبون ذلك مسارعة لهم في الخيرات، وقرأ عبد الرَّحْمن ابن أبي بكر: يُسارَع على مالم يسم فاعله، والصواب قراءة العامة لقوله سبحانه {نُمِدُّهُمْ}.
{بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أنَّ ذلك استدراج لهم، ثمَّ بيّن المسارعين إلى الخيرات فقال عزَّ من قائل {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ * والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات، هذه قراءة أهل الامصار وبه رسوم مصاحفهم.
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا إسماعيل بن نجية قال: حدّثنا محمد بن عمار بن عطية قال: حدَّثنا أحمد بن يزيد الحلواني قال: حدّثنا خلاد عن إبراهيم بن الزبرقان عن محمد ابن حمّاد عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {والذين يأتون ما آتوا من المجيء}.
وأخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال: حدَّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال: حدّثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو أُسامة قال: حدّثني ملك بن مغول قال: سمعت عبد الرَّحْمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: «لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه».


{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
أخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال: حدَّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال: حدّثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو أُسامة قال: حدّثني ملك بن مغول قال: سمعت عبد الرَّحْمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: «لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه».
وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدَّثنا محمد بن حامد قال: حدَّثنا محمد بن الجهم قال: حدَّثنا عبد الله بن عمرو قال: أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرَّحْمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: «لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه».
{أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا} يعني إليها {سَابِقُونَ} كقوله: {لما نُهوا عنه} و{لما قالوا} ونحوهما، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات.
{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني إلاّ ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} يعني اللوح المحفوظ {يَنطِقُ بالحق} يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر، وقيل: هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
ثمَّ ذكر الكفار فقال عزَّ من قائل {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} عمى وغفلة {مِّنْ هذا} القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا {مِّن دُونِ ذلك} يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه، قيل: وهي قوله: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}.
{هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} لابد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة.
{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} يعني اغنياءهم ورؤساءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: بالسيوف يوم بدر، وقال الضحّاك: يعني الجوع وذلك حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد».
{إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يضجّون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور، قال الشاعر:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة *** وكان النكير أن تضيف وتجأرا
يصف بقره. وقال أيضاً:
يراوح من صلوات المليك *** فطوراً سجوداً وطوراً جؤارا
{لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ} أدباركم {تَنكِصُونَ} تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى، مكذّبين بها كارهين لها {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، وهو كناية عن غير مذكور {سَامِراً} نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت، ووحّد سامراً وهو بمعنى السمّار لأنّه وضع موضع الوقت، أراد: تهجرون ليلاً، كقول الشاعر:
من دونهم إنْ جئتهم سمراً *** عزف القيان ومجلس غمر
فقال: سمراً لأن معناه: إنْ جئتهم ليلاً وهم يسمرون، وقيل: واحد ومعناه الجمع كما قال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] ونحوه.
{تَهْجُرُونَ} قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان:
أحدهما: تعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن والإيمان وترفضونها.
والآخر: يقولون سوءاً وما لا يعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ} يتدبّروا {القول} القرآن {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} فأنكروه وأعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل، يعني: بل جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به، وروي هذا القول عن ابن عباس.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} محمداً وأنّه من أهل الصدق والأُمانة. {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له، {بَلْ} محمد {جَآءَهُمْ بالحق} بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتبع الحق} يعني الله سبحانه {أَهْوَآءَهُمْ} مرادهم فيما يفعل {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} ببيانهم وشرفهم يعني القرآن.
{فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتهم به {خَرْجاً} أجراً وجعلاً وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض.
وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب.
قال الله سبحانه: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} رزقه وثوابه {خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} عادلون، مائلون، ومنه الريح النكباء.

1 | 2 | 3